📁آخر الأخبار

تحول حماس: من شعارات التحرير إلى واقع إدارة الركام ..!.. بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس


تشكل حركة حماس واحدة من أكثر الظواهر السياسية الفلسطينية إثارة للجدل والتناقض.

فما بدأ كحركة مقاومة ترفع شعارات التحرير، تحول عبر ثلاثة عقود إلى قوة تسعى اليوم للبحث عن دور في إدارة ما تبقى من قطاع غزة.

هذا المسار يكشف ليس فقط عن تحولات الحركة نفسها، بل عن المأزق العميق الذي تواجهه القضية الفلسطينية برمتها.

نشأة حماس في ديسمبر 1987 لم تكن في فراغ. تشير الوقائع إلى تساهل إسرائيلي ممنهج في سنواتها الأولى، في سياسة واضحة لخلق "بديل إسلامي" يضعف منظمة التحرير الفلسطينية. هذا الدعم المبكر خدم استراتيجية "فرق تسد" الإسرائيلية، حيث قدمت حماس - بشعاراتها الدينية ورفضها للبرنامج الوطني القائم على إقامة الدولة المستقلة - خدمة جليلة للمشروع الصهيوني في مرحلتين: مرحلة ما قبل أوسلو بتفكيك الوحدة الوطنية، ومرحلة ما بعده بتقديم الذريعة الدائمة لرفض التفاوض الجاد.

تلاعبت حماس بشعارات براقة لكنها مجردة من أي مضمون عملي: "فلسطين وقف إسلامي" يلغي الحق الوطني ويحول القضية إلى مفهوم ديني صرف، و"لا اعتراف بإسرائيل" بينما الواقع يشهد قنوات اتصال غير مباشرة مستمرة، و"المقاومة طريق التحرير" بينما تحولت إلى وسيلة لترسيخ الانقسام والسلطة.

التصريحات الأخيرة لقادة حماس تكشف عن تحول جذري.

موسى أبو مرزوق يصرح: "لن نقبل بنزع سلاح حماس بالكامل... يجب ضمان الاستقرار في قطاع غزة وعدم تكرار ما حصل في السابع من أكتوبر". هذا الكلام يفضح أولوية جديدة: "الاستقرار" تحت الهيمنة الإسرائيلية بدلاً من "التحرير".

أما خالد مشعل فيذهب إلى مدى أبعد في إذلال المسار الوطني عندما يتوسل للإدارة الأمريكية: "تعاملوا مع حماس كما تعاملتم مع الرئيس السوري أحمد الشرع... كان مصنفاً إرهابياً فأصبح شريكاً في مواجهة الإرهاب". هذه المقارنة الخطيرة تكشف استعداد الحركة للتحول إلى "شريك إقليمي" في المخطط الأمريكي، حتى لو كان الثمن التنكر للثوابت الوطنية.

المفارقة المأساوية تكمن في أن حماس تقدم تنازلاتها الكبرى لواشنطن وتل أبيب، وليس للشريك الوطني منظمة التحرير الفلسطينية وسلطتها الوطنية .

فبدلاً من نزع سلاحها لصالح سلطة وطنية موحدة، أو التسليم بقيادة منظمة التحرير، أو القبول بمشروع الدولة الواحدة، نراها تقدم تنازلات للأطراف الدولية: الموافقة الضمنية على "دولة على حدود 1967" كحل مؤقت، والضمان بعدم تكرار هجمات أكتوبر، والقبول بدور "شريك في الاستقرار الإقليمي".

هذا المسار يحقق الأحلام الإسرائيلية العميقة: تحويل الصراع من سياسي إلى ديني، وإدامة الانقسام الفلسطيني الذي يقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967، وتوفير الذريعة الدائمة لرفض المفاوضات الجادة تحت شعار "لا شريك".

بعد 36 عاماً، ماذا حققت حماس؟ الخسائر هائلة: تعميق الانقسام الجغرافي والسياسي، تحويل غزة إلى سجن معزول والى كومة من الركام ، فقدان التعاطف الشعبي ، تدمير البنية التحتية مراراً، وتقديم الذريعة لإسرائيل لتجنب المفاوضات.

في المقابل، أرباح حماس شخصية: بقاء في السلطة، شبكة مصالح اقتصادية، ودور إقليمي كلاعب في معادلات الصراع.

أمام الشعب الفلسطيني اليوم مفترق طرق: البقاء تحت هيمنة خطاب أثبت فشله في تحرير الأرض وتوحيد الصف وتحقيق الحياة الكريمة، أو العودة إلى المشروع الوطني عبر إنهاء الانقسام تحت قيادة منظمة التحرير، والتركيز على هدف الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وبناء مؤسسات الدولة تحت سيادة القانون.

تحول حماس من حركة تحمل شعارات التحرير إلى قوة تسعى لإدارة الركام يمثل ضربة قاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني.

القضية الفلسطينية تحتاج إلى وحدة وطنية واستراتيجية واضحة ومشروع تحرري شامل، وليس إلى دويلات منفصلة تدير ركام ما تبقى من الأرض. الخيار الآن بين الاستمرار في وهم "المقاومة" التي تخدم المشروع الصهيوني، أو العودة إلى رحاب المشروع الوطني الذي يجمع ولا يفرق، ويبني ولا يدمر، ويحرر الأرض والشعب معاً.

د. عبد الرحيم جاموس

الرياض

21/12/2025 م
تعليقات