ليست سجون الاحتلال الإسرائيلي مؤسسات “قانونية”، بل جبهات حرب مفتوحة ضد الإنسان الفلسطيني، تُدار بعقلية استعمارية فاشية لا ترى في الأسير سوى جسدٍ يجب كسره، وصوتٍ يجب إسكاته، وإرادةٍ يجب سحقها. إن قضية الأسرى لم تعد ملفاً حقوقياً يُناقَش في أروقة المؤسسات، بل معركة تحرر وطنية، وعنواناً صارخاً لجوهر الاحتلال القائم على القمع والتجريد والإبادة البطيئة.
منذ لحظة الاعتقال، يدخل الفلسطيني نفق الجريمة المنظمة: اقتحامات ليلية، بنادق مصوّبة إلى صدور العائلات، أطفال يُنتزعون من أحضان أمهاتهم، تكبيل وتعصيب وإهانات متعمدة، ثم زجّ في أقبية التحقيق، حيث يُمارَس التعذيب باعتباره سياسة رسمية لا انحرافاً. الضرب، الشبح، الحرمان من النوم، التجويع، التهديد بالقتل وباعتقال الأقارب، كلها أدوات يومية في معركة كسر الوعي وانتزاع الاعترافات بالقوة، في سقوط كامل لأي ادعاء بالعدالة.
وحين يُغلق باب الزنزانة، تبدأ المرحلة الأخطر: سياسة القتل البطيء. فالإهمال الطبي ليس تقصيراً، بل قراراً واعياً، تُترك فيه الأمراض تنهش أجساد الأسرى، وتُؤجَّل العمليات الجراحية عمداً، ويُواجه السرطان وأمراض القلب والكلى بالمسكنات، حتى يصبح الموت “قدراً طبيعياً” داخل السجن. عشرات الشهداء ارتقوا بهذه الطريقة، في جريمة متواصلة تتحمّل سلطات الاحتلال مسؤوليتها الكاملة، فيما يصمت العالم كأن حياة الأسير الفلسطيني فائض إنساني لا قيمة له.
وبموازاة ذلك، يستخدم الاحتلال الاعتقال الإداري كسلاح سياسي لإرهاب المجتمع بأكمله، عبر احتجاز الفلسطينيين دون تهمة أو محاكمة، استناداً إلى “ملفات سرية” لا يراها أحد. أما التجديد المفتوح لهذا الاعتقال، فهو حكم بالسجن المؤبد بلا حكم، وتعذيب زمني يقتل الاستقرار النفسي ويحوّل الحياة إلى انتظار دائم، في واحدة من أبشع أدوات السيطرة الاستعمارية.
هذا الجحيم يجد غطاءه في خطاب رسمي فاشي تقوده حكومة الاحتلال، وعلى رأسه إيتمار بن غفير، الذي دعا علناً إلى إعدام الأسرى الفلسطينيين، وحرّض على تحويل السجون إلى ساحات انتقام. ولم يكتفِ بذلك، بل طرح فكرة سجن محاط بالتماسيح، في خطاب سادي عنصري يفضح جوهر المشروع الصهيوني القائم على نزع الإنسانية وتحويل القمع إلى عرض علني. هذه ليست تصريحات هامشية، بل إعلان سياسة دولة تُشرعن القتل وتمنح الجلاد حصانة سياسية وأخلاقية زائفة.
وفي ذروة هذا الانحدار، صعّد الاحتلال عدوانه على الأسيرات الفلسطينيات، فأُخرجن قسراً إلى الساحات، وتعرّضن للضرب، ونُزع الحجاب عنهن بالقوة، في جريمة تمس الكرامة الإنسانية والدينية في الصميم. واستخدمت وحدات القمع الكلاب البوليسية والقنابل الصوتية ضدهن، وتكررت هذه الاعتداءات أربع مرات خلال شهر واحد، في رسالة واضحة مفادها أن جسد الأسيرة وكرامتها باتا ساحة انتقام مفتوحة. إنها سياسة إذلال مقصودة، تهدف إلى كسر الرمز والهوية قبل كسر الجسد.
وتندرج هذه الجرائم ضمن منظومة عقوبات جماعية تشمل العزل الانفرادي الطويل، والاقتحامات المتكررة للأقسام، والتفتيش العاري، والحرمان من الزيارات، ومصادرة المقتنيات، في محاولة فاشلة لكسر الحركة الأسيرة التي ما زالت تشكّل خط الدفاع الأول عن كرامة الشعب الفلسطيني خلف القضبان.
أما الأطفال الأسرى، فهم الشاهد الأوضح على طبيعة هذا الاحتلال؛ طفولة تُسرق، وأعمار تُكسر، وتحقيقات قاسية لا تراعي السن ولا البراءة، في جريمة مزدوجة تستهدف الحاضر وتغتال المستقبل
إن ما يجري في سجون الاحتلال ليس تجاوزات ولا “حالات فردية”، بل نظام قمعي استعماري معلن، يقوم على التعذيب، والقتل البطيء، والاعتقال التعسفي، والتحريض على الإعدام، والاعتداء السافر على النساء والأطفال. وكل صمت دولي إزاء ذلك هو شراكة مباشرة في الجريمة.
ورغم كل هذا السواد، يواصل الأسرى الفلسطينيون معركتهم بصلابة أسطورية، محوّلين الزنازين إلى ساحات اشتباك أخلاقي، والإضرابات عن الطعام إلى فعل مقاومة يعرّي الجلاد ويهزّ روايته. إنهم نبض الثورة خلف القضبان، وضمير شعب يرفض الهزيمة.
قضية الأسرى ليست بنداً ثانوياً، بل قلب الصراع، واختباراً حقيقياً لكل من يدّعي الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان. فإما الوقوف إلى جانب الأسرى في معركة الكرامة، أو البقاء في صف الجريمة، فيما تُسحق إنسانية الفلسطينيين يومياً خلف الأسوار، ويُسجَّل عار جديد في سجل هذا العالم المتواطئ.
