بتشخيص واقع الأحزاب والقوى السياسية، نلاحظ أنها انتقلت من "الحالة الثورية" إلى "البيروقراطية الرعوية"؛ حيث لم تعد تلك المحركات التي تقود التغيير، بل تحولت بفعل "التكلس القيادي" إلى مؤسسات تمارس نوعاً من "الرعوية السياسية". إن عجز هذه القوى في محطات مفصلية كالحرب على قطاع غزة لم يكن مجرد قصور لوجستي، بل كان "انكشافاً بنيوياً"؛ فالحزب الذي ينكفئ على تأمين مصالح "النخبة المنتفعة" أثناء الكوارث الوطنية، يفقد أخلاقيات وجوده، ويتحول من "حزب أيديولوجي" إلى "شركة مساهمة محدودة" لإدارة الأرزاق والامتيازات.
تعاني الأحزاب اليوم مأزقاً حاداً في مفهوم الانتماء؛ حيث تم إفراغ "العضوية" من مضمونها القائم على القناعة، والإيمان بالفكرة والمبادئ، واستبدالها بـ "التبعية الوراثية". فنحن أمام جيل ينتمي للحزب ليس تبنياً لرؤيته وأيديولوجيته، بل لأنه ورث "البطاقة الحزبية" كما يرث العقار، وهذا النمط خلق جيلاً من الأعضاء "الموظفين" الذين يفتقرون لروح المبادرة وينتظرون الأوامر والرواتب، مما أدى لهروب الكفاءات الشابة التي ترفض دور "التلميذ المطيع" في مدرسة قيادات الصدفة>
وفي المقابل، برزت ظاهرة "النفور الانتقامي"؛ حيث يهرب بعض الأبناء إلى الخصم السياسي نكاية ورغبة في الانتقام من حزب الأب الذي خذل الأسرة أو تعامل مع ولائها بجفاء وتهميش؛ وفي كلتا الحالتين، نحن أمام "انتماء مشوه" لا يبني وطناً، بل يغذي صراعات الشخصنة.
لقد تم تدمير قلب الحزب السياسي النابض حين تم ربط الانتماء بـ "لقمة العيش"؛ فلجوء قيادات "الصدفة" لأساليب الابتزاز بالرزق أو التهديد بالمكاسب هو إعلان صريح عن نهاية العمل الحزبي الطوعي وبداية "عبودية وظيفية" مغلفة بشعارات وطنية. فعندما يصبح الحزب هو "المتحكم في الأرزاق"، فإنه يقتل روح المواطنة ويحول العضو من مناضل صاحب رأي إلى موظف رهن التعليمات مقابل البقاء.
من خلال ما سبق عرضه مختصرا، لا بد من تبني رؤية إصلاحية لإعادة الاعتبار للعمل الحزبي، تقوم على الركائز التالية:
1. الفصل الأخلاقي بين "التنظيمي" و"المعيشي وتجريم استخدام الموارد المالية أو المساعدات كأداة للضغط السياسي أو لضمان الولاء الشخصي.
2. دمقرطة القيادة وكسر قاعدة الاستعباد والاستزلام عبر فرض تداول دوري للسلطة داخل الأحزاب، لكي لا تبقى القيادة حكراً على أشخاص تجاوزهم الزمن، مما يفتح الباب للكفاءات الشابة لا "المحاسيب".
3. عصرنة الخطاب الحزبي والسياسي ليكون قادرا على استقطاب وجذب جيل "الذكاء الاصطناعي" بخطابات معلبة من الماضي؛ بل يجب معالجة قضايا الشباب الحقيقية (البطالة، الحريات، التكنولوجيا) بلغة عصرية تحاكي واقعهم.
4. تعزيز النظام والشفافية والعدالة التنظيمية فالحفاظ على الأعضاء ومنع "الارتداد الانتقامي" لا يكون بالقمع، بل بإنصاف الكوادر وتقدير تضحيات الأسر، فالأصل يكون الحزب بيئة حاضنة لا طاردة.
5. على الأحزاب العودة للميدان والمجتمع بالخروج من المكاتب المغلقة إلى الميدان والتواصل مع المكلومين، والتحول إلى منصات خدمة عامة تستهدف "المواطن" لا "العضو" فقط، لاستعادة الثقة المفقودة.
أخيرا: إن الحزب الذي لا يتجدد حتماً سيتبدد، وإذا لم تدرك التنظيمات أن عهد "الاستعباد الوظيفي" قد انتهى أمام وعي الشباب الجديد، فإنها ستظل مجرد هياكل خاوية تتقاسم فتات "كعكة" زائلة، ومصيرها في النهاية التلاشي كالضباب.
