يقف الشعب الفلسطيني اليوم عند مفترق تاريخي بالغ الخطورة، تتقاطع فيه حرب الإبادة والتهجير، مع الانقسام الداخلي، وتراجع فاعلية النظام الدولي، ومحاولات فرض وقائع سياسية وجغرافية جديدة بالقوة. وفي خضم هذا المشهد القاتم، تبرز الحاجة الملحّة إلى رؤية استراتيجية وطنية للمستقبل، لا تكتفي بإدارة الأزمات، بل تؤسس لمسار صمود طويل الأمد، يحمي الثوابت ويصون المكتسبات الوطنية.
أولًا: التاريخ شاهدٌ على أن غياب الرؤية يبدّد التضحيات
يعلّمنا التاريخ الفلسطيني أن ضياع الفرص الكبرى لم يكن سببه ضعف عدالة القضية، بل غياب الرؤية الموحدة. نكبة عام 1948 جاءت في ظل انقسام القيادة وغياب المشروع الوطني الجامع، فيما أعادت مرحلة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية والانتفاضة الشعبية الأولى (1987) الاعتبار للقضية الفلسطينية إقليميًا ودوليًا، حين توافرت وحدة الإرادة ووضوح الهدف.
غير أن التجربة نفسها تُظهر أن الانقسام الداخلي، وتآكل المؤسسات بعد عام 2007، أضعفا القدرة على حماية الإنجازات السياسية والقانونية التي تحققت، وفتحا الباب أمام مشاريع التصفية.
ثانيًا: الشرعية الدولية… ركيزة استراتيجية لا يجوز التفريط بها
رغم محاولات تهميش القانون الدولي، ما زالت القضية الفلسطينية تستند إلى رصيد قانوني صلب، يشكّل عنصر قوة يجب توظيفه استراتيجيًا، لا التعامل معه كأداة رمزية.
فالحقوق الفلسطينية ثابتة بموجب:
ميثاق الأمم المتحدة الذي يكرّس حق الشعوب في تقرير مصيرها.
قرارات مجلس الأمن التي تؤكد عدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة، وعلى رأسها القراران 242 و338.
اتفاقية جنيف الرابعة التي تجرّم الاستيطان، والتهجير القسري، والعقاب الجماعي.
القرار 194 الذي يكرّس حق اللاجئين في العودة والتعويض، وهو حق لا يسقط بالتقادم.
كما يشكّل حصول فلسطين على صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة عام 2012، والانضمام إلى عشرات الاتفاقيات الدولية، مكتسبات وطنية استراتيجية لا يجوز المساس بها أو التنازل عنها تحت أي ظرف.
ثالثًا: الثوابت الوطنية… سقف الرؤية وحدود الواقعية
أي رؤية مستقبلية لا تنطلق من الثوابت الوطنية تتحول إلى مشروع هش. وتشمل هذه الثوابت:
فلسطين أرضًا وشعبًا وهوية، القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، حق العودة، ورفض الاستيطان والضم.
إن التمسك بهذه الثوابت لا يتعارض مع العمل السياسي، بل يحدد إطاره الأخلاقي والقانوني، ويمنع الانزلاق نحو حلول تنتقص من الحقوق التاريخية.
رابعًا: ملامح الرؤية الاستراتيجية للمستقبل الفلسطيني
تقوم الرؤية الاستراتيجية المطلوبة على خمسة مرتكزات مترابطة:
1️⃣ إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أساس الشراكة الوطنية، وتجديد الشرعيات، وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كممثل جامع للشعب الفلسطيني في الداخل والشتات.
2️⃣ الفصل بين السلطة والمشروع الوطني، بحيث لا تتحول السلطة إلى غاية بحد ذاتها، بل أداة خدمية في إطار مشروع تحرري أشمل.
3️⃣ اقتصاد الصمود عبر تعزيز الإنتاج المحلي، وتقليل التبعية للاحتلال، وبناء شبكات أمان اجتماعي تحمي الفئات الأكثر تضررًا.
4️⃣ تحصين الجبهة الداخلية بسيادة القانون، واستقلال القضاء، ومكافحة الفساد، باعتبارها شروطًا أساسية للصمود الوطني.
5️⃣ تدويل الصراع بوعي استراتيجي، من خلال تفعيل الآليات القانونية الدولية، وبناء تحالفات مع الرأي العام العالمي، بدل الاكتفاء بردود الفعل السياسية.
خلاصة القول
الخطر الحقيقي الذي يواجه الفلسطينيين اليوم لا يكمن فقط في سياسات الاحتلال، بل في فقدان البوصلة الوطنية والتعايش مع الانهيار. فالشعوب لا تُهزم حين تتعرض للعدوان، بل حين تفقد رؤيتها وإرادتها.
إن المستقبل الفلسطيني لن يُمنح من أحد، بل يُصنع بإرادة واعية، ورؤية استراتيجية واضحة، وتمسك صارم بالثوابت، واستثمار ذكي للشرعية الدولية.
وما دام الشعب الفلسطيني متمسكًا بحقه، فإن كل مشاريع التصفية، مهما بدت قوية، تبقى عابرة، ويبقى الحق أقوى من القوة.
