📁آخر الأخبار

أزمة الإنسان في غزة بين سلطة حاكمة واحتلال قاتل.. بقلم/ حلمي أبو طه


لقد فشلنا في غزة في اختبار إنسانيتنا؛ فكلّ ما شهدناه طوال الحرب لم يكن سوى مرآةٍ لفراغٍ قيميٍّ عشناه طويلاً. لم تكن الصور القادمة من تحت الركام مجرّد مشاهد حرب، بل كانت شهادة على موت الحسّ الإنساني، حين صار الخوف من السلطة الحاكمة أقوى من الخوف على الوطن، وحين انكفأ الإنسان على ذاته يبحث عن الأمان ولو على حساب الحقيقة. في زمن الحرب تتكشّف المعادن، ويُكتشّف العجز، لا لأن الناس بلا ضمير، بل لأنهم أُنهكوا بين سلطةٍ تُرهبهم واحتلالٍ يُفنيهم، فضاع الإنسان بين مطرقة الخوف وسندان الحاجة. ففي غزة لم تعد السلطة تمثّل عقداً اجتماعياً يربط المواطن بوطنه، بل غدت قيداً نفسياً يثقل ضميره. تماهت في صورتها أوجه القوة مع الرهبة، وغابت عنها مسؤولية الرعاية.

صارت السلطة تُطالب بالطاعة لا بالمواطنة، وبالولاء لا بالمشاركة، وبالصمت لا بالنقد. بذلك تحوّل الوعي إلى وعيٍ خائف، يرى في السؤال جريمة، وفي الاختلاف خيانة. وبدلاً أن تكون السلطة حاضنة للكرامة، أصبحت مرآةً لانكسارها، وبدل أن تُحرّر الإنسان من الاحتلال، أسرت صوته باسم المقاومة والنجاة، وهكذا تآكلت روح الجماعة تحت ضغط الخوف المقنّن باسم "المصلحة الوطنية". فالخوف في غزة لم يعد ردّ فعل على القمع، بل أسلوب حياة تربّى عليه الناس؛ يُلقّنهم المجتمع أن النجاة في الانحناء، والصمت شكلاً من أشكال الحكمة، فالكلمة الحرة تُكلف أكثر مما تُحتمل. فهذا الخوف تسلّل إلى تفاصيل حياتنا اليومية، إلى طريقة التفكير، إلى الصمت في وجه الخطأ، وإلى القبول بما لا يُقبل. وحين يصبح الخوف هو القاعدة الاجتماعية وسيد الموقف، يموت الضمير العام، ويتحوّل الإنسان إلى ظلٍّ يتحرك بلا روح، يخشى أن يكون حراً لأن الحرية في غزة ثمنها الحياة.

من يعيش طويلاً تحت الحصار يفقد القدرة على الحلم. فلم يعد الأمل في غزة مشروعاً إنسانياً، بل ترفاً فكرياً لا يقدر عليه أحد. فكلّ شيء هناك يذكّرك بأنك محاصر: البحر مسجون، الهواء مرصود، والكرامة مؤجلة إلى إشعارٍ آخر. وفي ظلّ هذا الواقع، يصبح البقاء هو الانتصار الوحيد الممكن، لكنّه انتصار بلا معنى. لأن فقدان الأمل يقتل الرغبة في التغيير ويحوّل الناس إلى متفرجين على وجعهم. وهنا تبدأ المأساة الكبرى: أن يتحوّل الوعي الجمعي إلى صمتٍ جماعيٍّ يقبل كل شيء خوفاً من اللاشيء. فمثلاً لم يعد الانقسام الفلسطيني حدثاً سياسياً عابراً، بل تحوّل إلى ثقافةٍ تسرّبت في الدم والذاكرة. فانقسمت العائلات قبل الأحزاب، وانقسمت اللغة قبل القرار، حتى صار لكلّ طرفٍ روايته عن الوطن، ولكلّ فصيلٍ تعريفه الخاص للعدو والصديق. بهذا الانقسام تآكلت الفكرة الوطنية الجامعة، وتحوّل الولاء من فلسطين إلى التنظيم، ومن الإنسان إلى الراية. لقد نجح الاحتلال في تفتيت الأرض، لكنّ الانقسام نجح في تفتيت الإنسان.

ممارسات الاحتلال في غزة ليس مجرد قوة عسكرية تُمارس القتل، بل منظومة نزعٍ للإنسانية تُعيد تشكيل وعي الفلسطيني كل يوم. فحين يُحاصر الجسد، يُحاصر العقل معه. وحين يُقصف البيت، يُقصف الحلم أيضاً. لكن الأخطر من القصف هو أن يتعوّد الناس عليه، أن يصبح الموت خبراً عابراً في شريط الأخبار، وأن تتحوّل المأساة إلى روتين. وأن يصبح الموت خبراً عابراً، وأن تتحوّل المأساة إلى روتين. وهنا تكمن المأساة: أن نمنح الجريمة غطاءً من القبول بالصمت أو الخوف. فقد أصبح الاحتلال شريكاً في صناعة العجز الإنساني، لكنه ليس وحده المسؤول، لأن صمتنا الطويل منح ما هو موجود غطاءً من القبول الضمني. إذن أزمة غزة من الأساس ليست فقط سياسية أو اقتصادية، بل هي أزمة إنسانٍ فقد ثقته بنفسه وبجماعته وبالمستقبل. فالخروج من هذه الأزمة لا يبدأ بالقوة وبالسلاح ولا بالخطابات، بل بإعادة بناء الوعي الإنساني، وإحياء الضمير الجمعي، واستعادة الشجاعة الأخلاقية لقول “لا”. إذا كانت لا في موضعها ووقتها. حينها ربما يستعيد الإنسان في غزة صوته، وتستعيد القضية معناها.

وفي ذات السياق لا بد من أن نعيد تعريف البطولة، التي ربطناها بالقوة والبطش، وكثرة الحروب الغير متوازنة، أو ببطش بعصنا البعض. فالقوة بمعناها الازلي هي "جرأة التفكير وصدق الكلمة" قبل فوهة البندقية. فلن ينهض الإنسان ما لم يقرّر أن يكتب تاريخه بيده لا بيد سلطته أو عدوه. فالتحرر الحقيقي لا يبدأ من ميدان القتال، بل من تحرير الوعي من الخوف، ومن إعادة بناء العلاقة بين الفرد والجماعة على أساس المشاركة لا الإكراه. وبحاجة إلى مشروع وعي جديد، يعيد تعريف الانتماء على أنه مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون شعاراً سياسياً، والنقد حبّاً للوطن لا خيانة. فالإنسان الجديد في غزة هو ذاك الذي يدرك أن المقاومة ليست فقط مواجهة الاحتلال بالسلاح، بل أيضاً مقاومة القهر الداخلي، والفساد، واللامبالاة. وهو الذي يزرع الأمل في بيئةٍ أنهكها الحصار، ويصون الحقيقة في زمنٍ تتكاثر فيه الأكاذيب.
فغزة لا تحتاج إلى بطلٍ جديد، بل إلى إنسانٍ صادقٍ مع ذاته، شجاعاً في تفكيره، مؤمناً بأن الحرية تبدأ من الكلمة وتنتهي بالكرامة.
تعليقات